الثلاثاء، 17 مايو 2011

المقال الرئيس

الحياة المتناسقة مع الفطرة هي الحياة القرآنية

مصطفى إسلام أوغلو



المترجم: ياوز آجار

المجال المفاهيمي للفطرة:

تدل الفطرة التي تعني "الخلق" على "انفلاق شيء وظهور ما بداخله" في الأصل اللغوي. و"الشيء" الظاهر بعد عملية الانفتاح هو "الخلق" بمعنى الكلمة. ومن هذا أطلق على الأكل الناقض للصوم "الإفطار" لانفتاح فم الصائم. ولعل هذا يتضمن معنى "ظهور ما بداخله" أيضا. وهذا لأن الصوم يخرج من الفم المفتوح معنىً بدخول الطعام والشراب



فيه.

ويأتي فعل "فطر" بمعنى "فلق أو شق"، غير أن الفلق المقصود هنا يختلف عن معنى "الشق" الذي يستخدم للتعبير عن تقطيع الخشب أو ما شابهه، وإنما يقصد به فلق الحب أو النواة غلافه لإنبات الزروع. لنفترض مثلا حبة قمح، فإنه يعبر عن "عملية ظهور سنبلة قمح في أرض منبتة كبرعم بتمزيق غلافها بفعل "فطر"، وهي في الحقيقة موجودة في القمح على حالة كمون أو سكون.

لنفترض مثلا نواة المشمش، فهي تحوي في داخلها شجرة المشمش في حالة كمون أيضا. فبرنامج هذه الشجرة الضخمة بجذورها وسيقانها وفروعها وأغصانها وأثمارها مكنوز ومرمز في نواتها. ومن الممكن القول بأن نواة المشمش بمثابة "الرقاقة" التي هي خلية ألكترونية. فإذا وجدت هذه البرمجية الإلهية الكامنة في النواة بيئة ملائمة تظهر وتنبت كتجلٍّ من تجليات اسم الله "الحيّ". وأول ما يتوجب على النواة لتحقيق ذلك هو قيامها بتمزيق غلافها الذي لا يكسرها حتى الأسنان إلا بصعوبة. ويعبر عن هذه العملية بفعل "فطر" أيضا.

ومرورا بهذه المراحل المذكورة، فإن كلمة "الفطرة" حملت معاني كثيرة، واتسع نطاقها لتدل من حيث المعنى اللغوي على "الشق والنقص والخرق أو الثغرة والفطور". وإذ يعبر عن عظمة خلق الله وبراعته في مدخل سورة "الملك" تستخدم كلمة "الفطور" بهذا المعنى، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ (الملك: 67). وحملت كتب التفسير التقليدية معنى كلمة "الانفطار" الواردة في سورة "الانفطار" على "القيامة". ولكن ذلك ليس بصحيح، بل هو يعني "الخلق الثاني بعد القيامة" كما يبدو من صيغته. ومن الممكن تفصيل معنى الانفطار كالتالي: "إعادة الخلق مثل انفطار نواة لتنبت خاضعة للأمر الإلهي".

وكل كلمة مشتقة من أصل "الفطرة" تنطوي على تأكيد مشترك وضمني لـ"الخلق". وفي الحقيقة، تكمن في كل شق وانشقاق يعبر عنهما بفعل "فطر" غايةٌ وحيدة وهي: ظهور الخلق بالفعل الذي كان في حالة سكون...

يستخدم العالم الغربي "علم الوجود" الذي برزت جذوره الأولى في الغرب قبل مائتي عام كمقابل لمصطلح "الفطرة" عندنا. غير أن "علم الوجود" لا يفيد المعنى الذي تفيده الفطرة، بل هو قريب من معناها. لأن "علم الوجود" يقوم على أساس علماني ووضعي كجميع التخصصات والمذاهب الحديثة الناشئة في الغرب. أما عندنا فحيثما يرد ذكر الفطرة يرد معها ذكر الخالق وتدخله في الأشياء بشكل فاعل ودائم.

ترتبط بعض المفاهيم مع الفطرة، منها "الطبيعة"؛ فهي تفيد استقرار قابلية سلوك شيء ما بحسب فطرة هذا الشيء في نفسه. ومنها "السجية"؛ وهي تدل على الانسجام مع الفطرة. ومنها "سنة الله"، ولكنها أعم من الفطرة.

تسخير الأشياء لفطرتها، وخضوع الأشياء لهذه الفطرة سنة إلهية. فـ"التسوية" الواردة في الآية السابعة من سورة الشمس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾، والتي تعني تسخير الأشياء والنفوس لما خلقت له (غاية الخلق) ترتبط مباشرة بالفطرة.

الله سبحانه وتعالى فاطر يضع فطرة للأشياء:

"الفاطر" من أسماء الله الحسنى، وتفصيل معناه "الذات الذي يظهر الإمكان الكامن خلقةً في شيء ما بالفعل". والذي كتب البرمجية الأولى لهذا الشيء هو البارئ. ومن خلق النماذج الأولى المنسجمة مع هذه البرمجيات فهو البديع. ومن الذي خلق الأنواع الحاملة خصائص مشتركة من هذه النماذج الأولى فهو الفاطر. أما الاسم المبارك الشامل لجميع مراحل الخلق المذكورة فهو الخالق.

إن الله الفاطر لا يخلق شيئاً ثم يتركه وشأنه، وإنما يمكّن فيه "رموز الخلق" التي هي بمثابة ختم إلهي. فالأشياء تنال هويتها بفضل رموز الخلق المذكورة ويطلق عليها "فطرة الأشياء". ونحن نتمكن من الحديث عن "غاية خلق الأشياء" بفضل هذه الرموز الموهوبة لها من الله الفاطر سبحانه وتعالى.

خالق الفطرة هو الله عز وجل. ولا يرد فعل "فطر" في جميع القرآن إلا مضافا إلى الله تعالى، مثل: (فطرة الله)، و(الله فاطر السموات)... الخ. ووضع فطرة للأشياء أمر خاص بالله جل ثناؤه، ولا يمكن أن يقوم به سواه. لا يستطيع أي صاحب قدرة أن يقوم بوضع فطرة لأي جزء من الأجزاء المكونة للوحود. فالله وحده يختص بهذا الفعل دون البشر. وشكر فعل خاص بالله تعالى لا يكون إلا بـ"الحمد" الخاص به. وتلك الآية تعبر عن هذه الحقيقة: ﴿الحمد لله فاطر السموات والأرض﴾ (فاطر: 35/1).

وهذا يعني: من هو المختص بوضع الفطرة فهو المتختص بالحمد. وفي الحقيقة لا يتحقق الحمد الفعلي إلا بالتصرف وفق الفطرة أو استخدام الأشياء بحسب فطرتها وغاية خلقها.

هناك علاقة مثيرة بين الآيتين الأوليين لسورتي الفاتحة والفاطر اللتين تبتدئ كلاهما بـ"الحمد لله". ففي سورة الفاطر ورد اسم الله "الفاطر" بدلا من اسم الله "الرب" الوارد في سورة الفاتحة، و"السموات والأرض" بدلا من "العالمين" في الفاتحة. وسبب الحمد في الفاتحة هو الربوبية الإلهية، أما في سورة الفاطر فسبب الحمد هو الفطرة الإلهية. لا تكفي القدرة الإنسانية لوضع فطرةٍ للأشياء، غير أن الإنسان يمكن أن يلعب ببنيتها التي فطر الله عليها خلقةً، بل يمكن له أن يغير بنيتها وتنسيقها ويحرفها ويتدخل فيها. وبهذا يمكن لنا فهم إشكالية "مصدر الشر".

إن الفطرة من المفاهيم المفتاحية في تفهّم إشكالية "الشر". ولا شك في أن حقيقة "إن لكل شيء فطرة" تقودنا بالضرورة إلى حقيقة "إن في خلق كل شيء غاية". أي فطرة شيء ما هو ما خلق له (غاية الخلق)، مما يدل على أن استخدام الشيء في سبيل ما خلق له "خير"، أما استخدامه في سبيل غير ما خلق له فهو "شرّ". ولذلك يتعاظم حجم شر شيء بقدر ما يبتعد عن غاية خلقه، إلا أن هذا الشر لا ينشأ من خلق هذا الشيء، بل ينتج عن استخدامه في أغراض غير ما خلق له.

وعلى سبيل المثال، فخلق الخنزير ليس بشرّ أصلاً، ذلك لأن لخلقه غايةً ناشئة من فطرته، وهي خير تماما. إذ خلق الخنزير ليكون "قماما/كناسا رائعا للطبيعة"، فهو يأكل كل شيء دون أن يبالي بأكله أ هو متعفن أم لا؟ أ هو منتج للجراثيم أم لا؟ فوظيفته الأساسية تتعين في القيام بتنظيف المخلفات العضوية وغير العضوية المنتجة للجراثيم. وهذا هو أحد مبررات حرمة أكل لحم الخنزير في الفقه الإسلامي، وهذا المبرر يتعلق بالبعد الفقهي للموضوع. وهناك بعد آخر أخلاقي لهذه الحرمة، وهو "عدم التقيد بالحدود (اللاحدودية)"، نعم فالخنزير يمثل "اللاحدود الأخلاقية (تعدي الحدود الأخلاقية)" من حيث الأخلاق؛ لأنه لا يميز بين الأكلات، فهو يأكل من جميع ما يمكن أكله من جهة، ومن جهة أخرى لا يختار زوجة لنفسه كما يفعله العديد من الحيوانات الأخرى، ولا يغار عليها. فهو لا يعرف الحدود في هذا الموضوع أيضا. وتكاد تكون قابلية الإنجاب لديه غير محدودة أيضا. وكما أن القرآن يحرم لحم الخنزير، كذلك يحرم "التخنزر" ضمنا.

والدرس الأخلاقي الذي يمكن استنباطه من هذه الحرمة الأخلاقية هو ذلك: عدم الالتزام بالحدود هو التخنزر. ولكن الله تعالى حد حدودا للإنسان لكي لا يتخنزر. فعلى الإنسان أن يختار ما يأكله، ويتوجب عليه أن لا يأكل من كل شيء. وكما أنه لا يأكل من الأكلات الخبيثة والمتعفنة، كذلك يجب عليه أن لا يأكل من المحرمات المتعفنة معنويا. وكذا عليه التمييز بين الحلال والحرام، والمعرفة كيف يسيطر على مشاعره، وعكس ذلك هو التخنزر في المشاعر.

على الإنسان أن لا يفعل كل شيء يحلو له ويخطر على باله. ويترتب عليه أن يعرف وضع حدود لنفسه، إذ فعل كل شيء تمليه نفس الإنسان ليس الحرية، وإنما هو التخنزر. خلاصة الكلام: الخنزير خير من حيث غاية خلقه، وهو يتحول إلى شر في حال إخراجه عن نطاق غاية خلقه. والقول بوجود غاية خلق لشيء ما هو القول بوجود فطرة له.

لكل موجود فطرة، بغضّ النظر عن كونه عاقلا أو غير عاقل، شاعرا أو غير شاعر. ﴿إن الله فاطر السموات والأرض﴾. فهذه الآية تدل على أن للسموات والأرض فطرةً أيضا، وأن واضعها هو الله سبحانه وتعالى. والقول إن للسموات والأرض فطرةً هو القول بأن السموات والأرض قد خلقتا لتحقيق غاية معينة. لهذا يطلب الوحي الإلهي من الإنسان أن يركز على غاية الأشياء.

سؤال: لماذا يطلب ذلك؟

الجواب: لأن الإنسان عندما يكشف عن غاية خلق الأشياء لا يلجأ إلى استخدامها في غير ما خلق من أحله. وبذلك لا ينتج عن الأشياء المخلوقة للخير أي شر. وهذا لخير الإنسان. وعندما يتصرف الإنسان على هذا النحو يكون قد راعى حق الله تعالى وحق الأشياء في الوقت ذاته. ومن جهة أخرى يكون هذا التصرف بمثابة شكر مقدم إلى فاطر الأشياء. وتزيد تلك النعمة بهذا الشكر. كما أن معرفة فطرة الأشياء تساعد على الإنسان لاستثمار جميع طاقتها في صالحه. وهذا نوع من زيادة النعمة.

إن الله خلق فطرة الإنسان بحيث يستطيع على التمييز بين الشر والخير. فالفطرة بهذا المعنى مرادف الوجدان (الضمير). وقد أطلق على الوجدان "وجداناً"؛ لأنه كامن في كل إنسان خلقةً كهبة إلهية، ولا يكتسب بالكد والعمل فيما بعد. وكما أن العقل ميزة تنعدم عندما تفقد فاعليتها، كذلك الوجدان ميزة تخبو جذوتها حينما تصيب فاعليتها بالضمور. لا بد أن يكون الوجدان فاعلا ويقضا حتى نعتبره موجودا. والدين يستهدف إنشاء وجدان (ضمير) حي لدى الإنسان. ولأن الضمير الحي الفاعل اليقظ يتغذى بالفطرة فهو يعرف الخير والشر. وهذا هو الحقيقة التي يعبر عنها الخبر التالي: (استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر). (أحمد بن حنبل).

الحديث عن الفطرة هو الحديث عن معنى الأسياء وغايتها. أما المعنى والغاية فهما القانونان الأولان للخلق. والنظام والتناسق السائدان في الأشياء يدلان على أن للأشياء معنى وغاية. والاعتراف بمعنى الأشياء وغايتها يشكل مصدرا للمسؤولية الأخلاقية. وبناءً على ذلك، فقبول وجود فطرة للأشياء هو رفض صارخ للامبالاة الأخلاقية والعدمية والفكرة الضالة المنحرفة القاضية بسخافة الخلق وعبثيته وجميع أنواع المادية.

الفطرة هي تنسيق إلهي:

هل للمخلوقات تنسيقٌ (صبغة) خلقةً؟

الرد على السؤال المذكور بـ"لا" إنكار للنظام والانسجام السائدين في الكون. وإنكار نظام الكون الرائع مستحيل؛ إذ هو حقيقة بديهية لا تحتاج إلى دليل، الأمر الذي يقتضي أن يكون الرد على السؤال المذكور بـ"نعم".

تعلن الأشياء عن طريق فطرتها أنها مخلوقة من قبل خالق. وإن نتكلم بعبارات عصر الاتصالات، ففطرة الأشياء هي التنسيق الإلهي لها. ذلك لأن الله الفاطر عندما خلق الأشياء طبع عليها ختمها. فتنسيق الأشياء، وهو ختم إلهي، هو الذي يمكّننا من إطلاق أسماء عليها. أي إن الفطرة تتعلق بحقيقة "تعليم الأسماء" الذي تفضل الله به لآدم عليه السلام كإحسان إلهي. وإن لم يكن قد سمى الله الأشياء بأسماء معينة لما كان لها هوية، وإن لم تكن للأشياء هوية لما تمكنا من تسميتها.

تؤكد تلك الآية أيضا أن الفطرة تنسيق إلهي: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 2/138).

وما معنى صبغة الله؟ وما المقصود بها؟

وبحسب رأينا فإن المقصود بـ"صبغة الله" هو الفطرة التي هي التنسيق الإلهي. لأن الله نسق الإنسان منذ بداية خلقه. ويسمى هذا التنسيق بـ"صبغة الله" في الآية المذكورة. فـ"الصبغة" الواردة في الآية "مجاز" بمعنى الكلمة. وكما أن الألوان الطبيعية التي تحملها الموجودات خلقةً تشكل جزءاً من هويتها، كذلك هناك صبغة معنوية أضفاها الله تعالى على الناس عندما خلقهم، وهي صبغة الفطرة. فالإمام أبو عبيدة والإمام فراء من العلماء المتقدمين الذين وصلت مؤلفاتهم حتى اليوم قد فسرا تركيب "صبغة الله" بـ"فطرة الله". وكل صبغة يضفى على هذه الصبغة الإلهية اصطناعية، فلا يمكن أن تحل محل صبغة الفطرة على الإطلاق. ويبدو أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ...) (البخاري ومسلم) يعبر عن هذه الحقيقة. وعندما تهترئ وتتساقط الصبغات الاصطناعية المضافة إلى صبغة الإسلام عن طريق أي وسيلة من وسائل الأسرة والتعليم والبيئة والمدرسة والمجتمع حينئذٍ تتجلى صبغة الفطرة الصافية. وقد يزيح الصبغةَ الاصطناعية التي مضت عليها ثلاثون عاما سماع أذانُ صبحٍ يستقرق ثلاث دقائق، أو ألم موت قريب، أو تجربة صدمة ما. وهذه الحقيقة هي التي تكمن وراء قصص الهداية التي نسمعها كل يوم.

وبمقدور الإنسان أن يعود إلى ذاته في أي وقت بسبب كون الفطرة تنسيقا إلهيا له. فذلك هو عملية تجديد الوعي التي يعبر عنها بـمفهومي"الاستغفار والتوبة". فالعودة إلى الفطرة عودة إلى "ضبط المصنع" إن جاز التعبير. وإذا عاد الإنسان إلى فطرته التي هي التنسيق الإلهي الذي يحمله في نفسه خلقةً يكون قد عاد إلى ضبط مصنعه. وهذا يعني أنه من الممكن دائما أن يتطهر الإنسان من الخبائث والانحرافات الثقافية للقرن الذي يعيش فيه ويصبح "أميا". نرمي بـ"الأمية" إلى العودة إلى الأم، أي "عودة الإنسان إلى وضعه الفطري عند الولادة".

يستحيل تبديل الفطرة، بل يمكن كشف الغطاء عنها، غير أنه من المكن ابتعاد الإنسان عن فطرته. وكذا من الممكن أن يعيش حالة اغتراب إزاء فطرته، وأن يصبح مغتربا عن روحه. وفي نهاية هذه العملية، لا يقضي على فطرته، وإنما يغطي عليها. ويطلق القرآن الكريم على مثل هذه التغطية "كفرا". وقد يصبح هذا الغطاء (الكفر) أحيانا غليظا وعازلا للصوت إلى حد بحيث يستحيل أن يعود الإنسان إلى فطرته مرة أخرى. ولا يمكن أن يصرّ الإنسان على الكفر قبل أن يخون فطرته. ويطلق القرآن على هذه الحالة "ختم القلب". ومن الممكن قراءة وفهم "القلب" هنا كفطرة وضمير.

ماذا تقول آية الفطرة؟

المسلم اسم يطلق على من كان على الإسلام. أما الإسلام فهو استسلام الإنسان لله تعالى في صغيره وكبيره بلا قيد ولا شرط. والاستسلام لله تعالى بلا قيد ولا شرط يعني في الحقيقة الاستسلام للحقيقة بلا قيد ولا شرط. تستحق الآية الثلاثون من سورة الروم أن يطلق عليها "آية الفطرة". فهذه الآية تبين أن فطرة الإنسان نزاعة لقبول الحقيقة وتصديقها خلقةً: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الروم: 30/30).

يمكن استنباط العديد من النتائج من تلك الآية المباركة العظيمة:

1. نفهم من خلال عبارة ﴿فطر الناس﴾ "فطرة البشرية" الواردة في الآية المذكورة، ومن عامة الآيات التي ترد فيها مشتقات "الفطرة" أن الفطرة لا تستعمل للتعبير عن شخصية إنسان واحد، وإنما يستعمل للإشارة إلى الصفة المشتركة بين جميع أعضاء نوع واحد. أي من الممكن أن يكون لأحمدَ مزاج، ولمحمد شخصية، ولكن من الاستحالة بمكان أن يكون لأحمدَ فطرة، ولمحمدٍ فطرة أخرى. فهذا الاستعمال خطأ بارز، لأن الفطرة تصلح للنوع، إلا أنه يمكن القول" فطرة الإنسان، فطرة الشجرة، فطرة الملك ...الخ.

2. لا يقال في الآية ضمنا "حدد لنفسك غاية خلق"، بل يقال "توجه إلى الغاية المحددة المعينة من قبل الله الفاطر بإرادتك الذاتية"، مما يعني أنه من الممكن أن تتصرف الكائنات أو الموجودات الواعية بخلاف فطرتها. ومتى ما تصرف الكائن الواعي بخلاف فطرته يظهر الشر والفساد. وطالما أن الحديث آل إلى هنا لا بد من تذكر الآية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ (الشمس: 8/91).

3. وكأن الإنسان المأمور بـ"توجيه كيانه إلى فطرة الله" ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ طرح السؤال التالي "لماذا يا رب؟" فجاء دوام الآية مبيناً مبررَ ذلك الأمر: "لكي لا يكون تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾. فهذه الجملة المبررة للأمر المذكور تحتوي تحذيرا ضمنيا. والتفصيل الضمني لهذا التحذير هو: أيها الإنسان! إذا لم تتصرف وفق فطرتك فلا تستطيع أن تتحمل تبعة النتائج التي تتمخض عن ذلك. إذ تحرف حينئذ مواقف الأشياء التي وضع الله كل جزء من أجزائها في مواضعها الملائمة بحكمة ولغاية، فضلا عن خيانتك لفطرتك، ثم تحدث الحالة الوخيمة التي تصورها تلك الآية: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة: 2/205). وبذلك تتعين مهمة المسلمين على الأرض في: الحفاظ على الفطرة.

4. تشيد الآية الكريمة بالحفاظ على الفطرة وإدامة الحياة وفقها قائلة ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾. ولا بد أن يكون تفسير هذه العبارة على الوجه الأصح كالتالي: لا بد أن تكون غاية الدين ذلك، والدين هو الذي يشكل مصدرا للقيم. فهذه الجملة التي تصرح بمقصد آية الفطرة لا تصحّح تصورنا عن الدين فحسب، وإنما إلى جانب ذلك يعرف الدين بأصحّ تعريف. وعلى هذا يكون المصدر المكوّن لقيمكم هو دينَكم؛ لأن الانتماء إلى دين هو الاعتراف به كمركز ومحور للمنظومة القيمية. ولا يمكن أن يثبت الإنسان دعوى انتمائه إلى ذلك الدين إلا إذا استند إلى تلك المنظومة القيمية من حيث عالمه العاطفي والفكري والعملي.

5. يرد في الجملتين المتتاليتين من الآية تركيبان، أولهما "فطرة الله"، وثانيهما "خلق الله". وهذان التركيبان يشيران إلى علاقة وثيقة لا تنفصم بين الفطرة والخلق. ومحصل القول: التوجه نحو الإسلام؛ الدين الحنيف (الخالص) هو التوجه نحو الفطرة، أما التوجه نحو الفطرة فهو الولاء والوفاء للخلق.

6. تنتهي الآية هكذا: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾. تحمل هذه الجملة الأخيرة للآية مسؤولية على كاهل كل مؤمن متوجه نحو فطرة الله وهي: الإعلان عن قيمة الحفاظ على الفطرة والعيش وفقها لجميع الناس.

وإليكم آية أخرى تؤكد آية الفطرة وتقول الروايات إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في بداية الصلاة عقب تكبيرة الافتتاح مباشرة وهي: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 79/6).

لا يمكن أن ينجح من لا يعرف فطرة شيء يزاوله:

ليس هناك أي كائن بدون فطرة، فكل كائن يخلق مع فطرته. والفطرة مفهوم متعلق بالنوع، وليس مرتبطا بفرد في النوع. ولهذا تتأسس الشخصية على الفطرة. وفطرة الشخصية تشير إلى النوع الذي تنتمي إليه. أما شخصية الفطرة فتشير إلى فرد يبرز داخل هذا النوع، ثم يمتاز بشخصيته.

يقتضي الإيمان بالله الفاطر القبول مسبقا أنه يضع فطرة للأشياء، أما هذا القبول فيقتضي اكتشاف الفطرة. ومن غير الممكن أن يضع الإنسان فطرة للأشياء، وإنما يتمكن الإنسان من اكتشاف الفطرة الموضوعة من الله تعالى. يتضمن التعامل مع الأشياء بالتغاضي عن فطرتها تدخلاً سلبيا في الفطرة. والنجاح يكمن هنا بالضبط، وأن ما نسميه "طبيعة الأشياء" هو "فطرة الأشياء" في الحقيقة. وكل عمل نزاوله دون الاعتبار بفطرة الأشياء هو إخلال التوازن والانسجام السائدين في الطبيعة. وعندما يختلّ هذا التوازن والانسجام يصدر من الأشياء المخلوقة للخير في الأساس شرٌ وفساد.

وبناءً على هذا، فلا بد أن يكون هدف جميع العلوم، بغض النظر عن كونها معنوية أو مادية أو بشرية كشفَ الغطاء عن الفطرة أولاً، ورعايتها ثانياً. ومن لا يعرف فطرة ما يقوم به يستحيل أن يصبح ناجحاً، فضلا عن هذا فإنه يحرفه ويخربه.

على العالم أن يعرف فطرة العلم؛ إذ لا يمكن له التمييز بين بقاء المعرفة كمعلوماتٍ وتحولها إلى العلم إلا بهذه الطريقة، كما يدرك بفضل ذلك أن الله هو الذي وهب مادة العلم، وذلك هو معنى "تعليم الأسماء".

وعلى المعلّم أن يعرف فطرة الطالب، فالإنسان كائن يتمتع بقابلية التعلّم والتعليم. وقصة تعلّم قابيل مواراةَ الجثة من غراب تشير إلى تلك الحقيقة. وأساس التعليم هو العطف والرحمة. ومدخل سورة الرحمن يلقن ذلك.

على الموسيقار أن يعرف فطرة الصوت؛ لأن الله هو رب الصوت، ومنح له فطرة أيضا. فبقدر ما تؤدى الموسيقى بشكل ينسجم وفطرتها ينعكس إيقاعه في مشاعر الإنسان. ولا يزال "نظام الصوت الطبيعي" موجودا في موسيقياتنا الحقيقة، وهو الذي اقتبسه الرياضي الإغريقي (اليوناني) الشهير فيثاغورس المولود في عام 569 قبل الميلاد من العلوم السرية في مصر القديمة ونقله لمن بعده. بينما الموسيقى الغربية تركت نظام الصوت الطبيعي المذكور وطوّر نظاما صوتيا مصطنعا يسمى "فترات تمبرية" (tempere). يقول أحد أهل الخبرة في هذا المجال: لا يمكن التقاء هذين النوعين من الموسيقى مع الحفاظ على خصائصهما المميزة؛ لأن النوع الثاني مخالف لفطرة الصوت.

على الطبيب أن يعرف فطرة الإنسان وجسمه. وليست المعالجة إلا عملية إعادة عضو أو نظام إلى فطرته الأصلية، ولا بد أن لا تكون غير ذلك. وشعار "الحياة الأبدية" شعار مخالف للفطرة. وإن الطبيب الذي يعرف فطرة الجسم ليحترم للموت بقدر ما يحترم للحياة. وفي هذا الإطار لا بد أن نقول: إن يَستخدم تكنولوجيا الجينات عقلٌ منكر للفطرة تنتج عنها الكارثة، ولكن إن يَستخدمها عقلٌ يراعي الفطرة وقوانينها تنتج عنها السعادة.

على العالم الاجتماعي أن يعرف فطرة المجتمع. ولقد ذكر الله تعالى قانون الفطرة الذي وضعه للتغير الاجتماعي في الآية 11. من سورة الرعد: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

وعلى الفيزيائي أن يعرف فطرة المادة، والنباتي فطرة النبات، والأحيائي فطرة الحياة والأحياء، والمعمار فطرة المواد التي يستخدمها في مهنته. وبعد حصول هذه المعرفة لديه يتوجب عليه أن لا يتصرف بخلاف الفطرة من جهة، ومن جهة أخرى أن يكافح ضد المتصرفين بخلافها.

وموجز القول: إن الله فاطر. والله الفاطر يضع فطرة للأشياء، والمؤمن بالله عز وجل يؤمن باسمه "الفاطر" أيضا، والذي يؤمن بهذا الاسم يقبل أن الله عز وجل يضع فطرة للأشياء. ومن يصدق هذه الحقيقة يعرف أن الطريق إلى معرفة الأشياء يمر من خلال معرفة الفطرة الموضوعة لها. وبعد معرفة هذا سيقوم ذلك الإنسان العالم بالفطرة بتطبيق قوانينها، أي سيعمل بما يعلم عن الفطرة، كما سيكون ممثلا للعودة إلى الفطرة في مجاله، كذلك سيكافح في هذا السبيل.

ولب القول: الحياة المتناسقة مع الفطرة هي الحياة القرآنية.



إن البرمجية الإلهية الكامنة في نواة المشمش التي هي بمثابة "الرقاقة" تظهر عندما تجد بيئة ملائمة كتجلٍّ من تجليات اسم الله "الحيّ".

إن الله الفاطر لا يخلق شيئاً ثم يتركه وشأنه، وإنما يمكّن فيه "رموز الخلق"، وهذه الرموز بمثابة ختم إلهي.

تقودنا حقيقة "إن لكل شيء فطرة" بالضرورة إلى حقيقة "إن في خلق كل شيء غاية".

"فطرة أحمد" و "فطرة محمد"... هذا الاستعمال الشائع بين الناس لمفهوم الفطرة خطأ؛ ذلك لأن مفهوم الفطرة يصلح للنوع، كفطرة الإنسان، وفطرة الشجرة، وفطرة الماء، وفطرة الملك ...الخ.

لا تقول الآية للإنسان؛ الكائن الواعي ضمنا "حدد لنفسك غاية خلق"، وإنما تقول "توجه إلى الغاية المعينة لك من قبل الله الفاطر بإرادتك الذاتية".

إن يَستخدم تكنولوجيا الجينات عقلٌ منكر للفطرة تنتج عنها الكارثة، ولكن إن يَستخدمها عقلٌ يراعي الفطرة وقوانينها تنتج عنها السعادة.

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق